قد تبدو جملة “لا تقلق، وكُن سعيداً” جملةً تَعلَق في الذهن، لكنَّها ليسَت نصيحةً رائعة؛ وقد يزيد سماع جُمَلٍ حالتك سوءاً، مثل: “حافظ على هدوءك”، أو “انظر إلى الجانب المشرق”، أو “احمد الله أنَّ الوضع لم يكن أسوأ”؛ وذلك حينما تَمُرُّ بأوقاتٍ عصيبة.
لعلَّك صادفت في الآونة الأخيرة كثيراً من حالات “الإيجابية السامة”، والتي تعدُّ أساساً شكلاً من أشكال الإيهام غير المُتعمَّد، والاستخدام المبالغ فيه لعبارة “كن سعيداً، وفكِّر بشكلٍ إيجابي”، والإفراط في تعميمها على جميع المواقف.
ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن تجربة شخصية للمؤلفة مارجي واريل (Margie Warrell)، والذي تحدثنا فيه عن مضار “الإيجابية السامة” والإفراط في التفاؤل.
يُعَدُّ هذا الشكل من الإيجابية سامَّاً؛ لأنَّه حينما تُستخدَم الإيجابية مثل أيِّ شيءٍ يُمارَس بشكلٍ مبالغٍ فيه لكبت العواطف السلبية، أو التقليل من أهميَّتها، أو إخفائها؛ تُلغَى تجربة الإنسان بأكملها.
في الحقيقة، تؤذينا الحياة في بعض الأحيان، مثلما تفعل هذه الشهور الأخيرة في ظلِّ الجائحة التي جلبَت العديد جدَّاً من المصاعب والأحزان إلى بيوت ملايين البشر وقلوبهم. سيتخرَّج ابني من المدرسة الثانوية الأسبوع المقبل، ولم يُسمَح له برؤية أصدقائه منذ آذار.
لقد حزنتُ لأنَّه حُرِم من الاحتفال بهذه اللحظات التي كان يجب أن تكون مليئةً بالبهجة، وأصبتُ بالإحباط أيضاً؛ لأنَّ رحلتي التي كانت مُقرَّرةً في نيسان أُلغيَت أيضاً؛ لذلك لم تكن لتُسعفني في ذلك الحين كلماتٌ، مثل: “لا تقلق”، أو “هدِّء من روعك”. أعتقد أيضاً بأنَّك لقيتَ نصيبك من الانتكاسات والمصاعب في الآونة الأخيرة، وربَّما تواجه بعضها الآن؛ وإذا كان الحال كذلك، فأدعوك إلى أن تعيد النظر في الإيجابية؛ ليس لأنَّ التفكير الإيجابي لا يُعَدُّ مهمَّاً للنجاح في مواجهة تقلُّبات الحياة التي لا بُدَّ من مواجهتها، بل لأنَّنا حينما نختار العواطف التي سنُحِسُّ بها ونتخلَّى عن المشاعر التي لا نستسيغها كثيراً، ونحرم أنفسنا من المشاعر التي تمنحنا أعظم المتع؛ فتجنُّب المعاناة شكلٌ من أشكال المعاناة.
فيما يلي خمس استراتيجيات لتجنُّب الوقوع في فخ الإيجابية السامة، والتعامل مع تلك المشاعر السيئة بطريقةٍ مفيدة:
- الإحساس بالمشاعر إحساساً كاملاً:
نحن لسنا مجبولين على تقبُّل الإحساس بالألم، بل على تجنُّبه؛ لكن من خلال تقبُّل المشاعر المؤلمة، نتمكَّن من الوصول إلى أعمق مصدرٍ من مصادر القوة الكامن داخلنا. تستطيع القيام بذلك من خلال مواجهة المشاعر المزعجة التي تُحسُّ بها عوضاً عن الهروب منها من خلال: الحدِّ من أثرها، وكبتها، وإنكارها، وصرف الانتباه عنها، والتقليل من قيمتها.
حينما تُحِسُّ بإحساسٍ غير مريحٍ كثيراً في المرة القادمة، اذهب إلى مكانٍ هادئ، وحدِّد الإحساس الذي تشعر به -سواءً كان حزناً، أم قلقاً، أم حسداً، أم ذنباً، أم ألماً، أم إحباطاً- وابحث عن الموضع الذي يتركَّز فيه هذا الإحساس، فهو يتَّخِذ لنفسه دائماً مكاناً ما في جسمك.
ضع يدك على ذلك الموضع، وخذ أنفاساً عميقةً دعها تصل إلى الموضع الذي تُحِسُّ فيه بالانقباض؛ وفي أثناء القيام بذلك، اسأل نفسك عن المشكلة التي تحتاج إلى أن تعيرها اهتمامك.
وجدَت الدراسات أنَّ الإحساس بمشاعرنا إحساساً كاملاً يساعد في تخفيف وطأتها عنَّا؛ وفي المقابل، يزداد تأثير العواطف المُزعجة حينما ننكر الإحساس بها، ولا نستطيع الاستمتاع فعلاً بالعواطف الإيجابية إلَّا إذا أحسسنا إحساساً كاملاً بالعواطف السلبية، ولا يمكن أن تُحِسَّ بأحدها دون أن تُحِسَّ بالأخرى.
- الحديث عن حقيقة حياتك الغامضة مع مجموعةٍ صغيرةٍ من الأشخاص المُحدَّدين:
حينما يسألك الناس “كيف حالك؟”، فإنَّ الإجابة الافتراضية التي يريدون سماعها هي: “أنا بخير”، وهي كذلك الإجابة التي نريدها فعلاً أن تكون الإجابة الحقيقية، وتكون كذلك في بعض الأحيان؛ لكن حينما نُخفِي حقيقة حياتنا غير المثالية، ونبني عالماً من العواطف المزيفة؛ نحرم أنفسنا من الناس الذين يمكنهم أن يساعدوننا على تحمَّل الأعباء المُلقاة على عواتقنا بشكلٍ أفضل، وإنَّنا نعرض أنفسنا في هذه الحالة إلى خطر بناء صداقاتٍ سطحيةٍ تسودها مشاعر ألفة مُزيَّفة.
لا يعني هذا أن تخرج وتخبر جميع الناس عن كلِّ المشاكل التي تعانيها والمشاعر السيئة التي تُحِسُّ بها، إذ لا يستحق جميع الناس الاطلاع على حقيقة حياتك؛ بل يعني أن تخبر بذلك أولئك الذين اكتسبوا الحقَّ في أن يعرفوا ما الذي يُثقِل كاهلك. إنَّ الحديث عن المصاعب التي تواجهك أمام الآخرين لا يزيلها؛ بل يمنحك قوَّةً أكبر للتعامل معها بشكلٍ أفضل، والعبارة التي تقول: “يزيح الحديث عن العبء نصف ثقله عن كاهلك” فيها كثيرٌ من الصواب.
إذا سُئلت عن حالك، فلا بأس في أن تقول أنَّك لستَ بخير؛ وإذا استمرَّت معاناتك حقَّاً، فتحلَّ بالشجاعة واطلب المساعدة من الاختصاصيين، إذ لا يُعَدُّ التواصل مع الأشخاص الذين يستطيعون مساعدتك دليل ضعف، بل يُظهِر رغبتك في اكتساب مزيدٍ من القوة.
- التوقُّف عن لوم النفس بسبب عدم الإحساس بالتفاؤل:
إذا كنت تُفضِّل أن ترى نفسك شخصاً إيجابيَّاً، فقد يكون من الصعب عليك أن تُحِسَّ بأيِّ أحاسيس سوى الأحاسيس الإيجابي؛، لكنَّ لوم النفس على عدم الإحساس بالتفاؤل يزيد حالتك سوءاً. حتَّى أكثر الناس تفاؤلاً يمكنهم أن يُحِسُّوا بمشاعر سلبيَّةٍ في بعض الأحيان، وحتَّى أكثر الأشخاص إظهاراً للحُب يمكن أن يُحِسُّوا بكُلِّ المشاعر ما عدا الحُب.
لا تُثقِل كاهل نفسك باللوم، واستوعب أنَّك من طينة البشر من خلال التعامل مع نفسك بالمقدار نفسه من العطف الذي تُعامل به صديقك، واعلم أنَّ الخير يمكن أن يكمن في مشاعر الخوف أو الغضب أو الحزن، ما لم تحارب هذه المشاعر أو تتهرَّب منها. وعوضاً عن محاولة التخلُّص من المشاعر السلبية، يجب علينا أن نسعى إلى زيادة مشاعرنا الإيجابية؛ إذ لا يمكننا أن نُحِسَّ بمزيدٍ من المشاعر الإيجابية إذا عاقبنا أنفسنا كلَّما أحسسنا بمشاعر سلبية.
- مراعاة المشاعر العصيبة التي يُحِسُّ بها الآخرون:
بعد أن أجهضتُ في منتصف حملي الأوَّل، عبَّر كثيرٌ من الناس عن دعمهم لي حتَّى يساعدوني في التحسُّن، وقد فعلت كلماتهم عكس ذلك تماماً في بعض الأحيان. قالَت لي إحدى زميلاتي في العمل: “أعتقد بأنَّ قدر هذا الطفل ألَّا تُكتَب له الحياة”، لكنَّني تخيلتُ فعلاً أوَّل يومٍ له في المدرسة؛ وقالَت أخرى: “لا زلتِ شابَّةً على الأقل”، نعم لقد كنت كذلك، لكن في وسط الحزن الذي أحسَست به لم تمنحني كلماتهم عزاءً يُذكَر.
لقد تعلَّمتُ من حوادث الفقدان التي عايشتها أنَّ الطريقة الوحيدة للتخلُّص من الحزن هي الجلوس وإظهار الاحترام بشكلٍ كاملٍ لهذه المشاعر، وأن نُظهِر تقديرنا لأيِّ واقعٍ جديدٍ مريرٍ يعانيه الآخرون حينما يُحِسُّون بالحزن.
من أهمِّ الأمور الأساسية التي يحتاج إليها البشر: وجود من يُصغي إليهم ويفهمهم، وهذا يحتاج منَّا إلى التخلِّي عن ردة الفعل الغريزية في التخفيف من آلامهم أو إصلاح المشاكل التي تواجههم؛ لأنَّ بعض المشاكل لا يمكن إصلاحها على أيِّ حال. ما يحتاج إليه البشر في المقام الأوَّل ليس عباراتٍ زائفةً تقلِّل من قيمة التجارب التي يَمُرُّون بها، مثل: “انظر إلى الجانب المشرق”؛ بل إلى أشخاصٍ يُصغون إليهم ويقدِّرونهم ويفهمونهم أينما كانوا، ومهما كانت المشاعر التي يُحِسُّون بها، حتَّى لو كنت تعتقد أنَّ ردود أفعالهم مبالغٌ فيها.
فيما يلي ثلاث طرائق للقيام بذلك:
أظهر الاحترام للمشاعر التي يُحِسُّون بها من خلال استعمال الكلمات للتعبير عن تلك المشاعر: “هذا سيء. أنا آسفٌ جدَّاً، فهذه تجربةٌ مؤلمةٌ حقَّاً. أعلم الإجهاد الذي يسببه هذا لك، وأتفهَّم تماماً المشاعر التي تُحِسُّ بها”.
دعهم يعرفون أنَّك تقف إلى جانبهم: “لا أعلم ما أقول، لكنَّني أقف إلى جانبك وأساندك. ستجتاز هذه المحنة وتنساها. أثمَّة أيُّ شيءٍ أستطيع أن أفعله اليوم حتَّى أخفِّف العبء عنك؟”
أكِّد لهم على إيمانك بهم وبمستقبلهم: “بإمكانك أن تفعل ذلك. أعلم أنَّك ستجتاز هذه المحنة. كيف أستطيع أن أساعدك في ذلك؟ أنا معك في كل خطوةٍ تخطوها”.
- مواجهة الواقع مع الاحتفاظ بالأمل:
لا يتعارض اضطراب العواطف والتفاؤل أحدهما مع الآخر، إذ بإمكانك أن تُحِسَّ بمشاعر سلبيَّةٍ في بعض جوانب حياتك، وتنظر إلى المستقبل نظرةً مُتفائلةً في الوقت نفسه. أُحِسَّ الآن بالحُزن لأنَّ أفراد عائلتي متفرِّقون في ثلاث قارَّات، وثمَّة قيودٌ مفروضةٌ على رحلات السفر بين الدول تجعلني لا أعرف متى يمكن أن أراهم في المرة القادمة؛ لكنَّني أعلم أنَّنا في النهاية سنتمكَّن من تبادل العِناق، وسيكون هذا يوماً رائعاً.
التغيير قَدَر الطبيعة الحتمي؛ لذلك عامل باحترامٍ أيَّ مشاعر تُحِسُّ بها، وآمن في الوقت نفسه بأنَّ المُستقبل يحمل كثيراً من الآمل، وبأنَّك لن تُحِسَّ بالمشاعر السيئة التي تُحِسُّ الآن بها بالطريقة نفسها إلى الأبد.
يعني الاستمتاع بالحياة على أكمل وجهٍ أن تعيش حياةً شجاعة، ولا مكان في هذه الأجواء للإيجابية السامَّة؛ فالذي يُبرِز الشجاعة في النهاية: مواجهة أسوأ ما نخشى أن يقع، وليس إنكار مخاوفنا. قد يكون السماح لأنفسنا بأن نُحِسَّ بالمشاعر السيئة في بعض الأحيان، أفضل خدمةٍ نُسديها لأنفسنا.