تناولنا في المقال السابق مرحلة “النمو”، أولى مراحل الحياة الخمس التي حددها عالم النفس “دونالد سوبر”، وتعرفنا على خصائص واحتياجات الطفل في تلك المرحلة، والعوامل التي تؤثر على بناء الشخصية وتكوين “مفهوم الرؤية المهنية للذات” الذي يترتب عليه قرارات الفرد واختياراته المهنية في المراحل التالية، والتي سنتعرف عليها بشكل أوضح في هذا المقال. وسنقوم بالتركيز على مرحلة “الاستكشاف”، فخلالها يحدث النضج المهني الذي بناء عليه يحقق الفرد أعلى درجات النجاح وتحقيق الذات.
سمات مرحلة الاستكشاف
مرحلة “الاستكشاف” هي المرحلة الثانية من مراحل الحياة، وتبدأ من سن 15 وتمتد حتى 24 سنة بشكل عام، والتي ينتقل فيها الفرد من الطفولة إلى الشباب المبكر. وتسمى هذه المرحلة بالاستكشاف لأنها بالفعل فترة اكتشاف الذات والبحث عن الهوية الشخصية، حيث تتبلور لدى الفرد وجه نظر عن نفسه وما يمتلكه من قدرات ومواهب وميول واستعدادات. وفي ذات الوقت من المحتمل أن يتعرض الفرد لمجالات مهنية مختلفة، من خلال وسائل الإعلام، أو التعليم المدرسي، أو الأصدقاء، أو الأقارب، أو من خلال خبرة مباشرة عند القيام بأعمال، وبالتالي يقوم في هذه المرحلة باكتشاف والبحث في المجالات والتخصصات المهنية وتطوير معرفته بعالم العمل لإيجاد منافذ كافية لميوله وقدراته وإمكانياته. وكذلك يتم تشجيع الشخص ومن حوله من والدين وأقارب ومدرسين على تشجيع الشباب في هذه المرحلة للقيام بنشاطات وأعمال متعددة مما يساعد على اكتشاف هوية الشخص المهنية والتي تساعده إيجاباً مستقبلاً.
طبيعة القرار المهني في مرحلة الاستكشاف
يتصف القرار المهني في بداية مرحلة “الاستكشاف” بالعشوائية وعدم الاستقرار أو التفكير العلمي والمنطقي، ربما يستطيع الفرد اتخاذ القرارات في هذه المرحلة، ولكنه لا يستطيع تحديد النتائج المترتبة عليها، وذلك لأنه لا يدري ما هي القيم المحركة له أو الميول والاهتمامات الشخصية التي فطر عليها أو كيف يوازن بينها أو يشبعها.
حيث أن الشخص في هذه المرحلة من المحتمل أن يتعرض لمجالات مهنية متنوعة من خلال وسائل الإعلام أو التعليم المدرسي أو الأصدقاء أو الأقارب، أو من خلال خبرة مباشرة عند القيام بأعمال لبعض الوقت “أثناء الإجازة للطلاب مثلا”, وفي أواخر تلك المرحلة يقوم بعمل مقارنة بين مختلف المجالات المهنية وقدراته ومهاراته وميوله وخصائص شخصيته، ويحاول الاستقلال في اتخاذ قراراته بناء على تفكيره المنطقي، كما يحاول البحث عن أو ممارسة مجالات اهتمامه ومهاراته، ويسعى جاهداً الوصول إلى درجة الرضا النفسي إلا أن التخبط والتردد في اتخاذ القرارات المصيرية تكاد تكون سمة أساسية لهذه المرحلة لأنها تتعلق كثيراً بالأمور المستقبلية، ولأنها تتعلق بالبحث في أعماق الشخصية لمعرفة الاهتمامات والميول والقيم المهنية والحياتية المحركة له.
وأوضح سوبر أن مرحلة “الاستكشاف” تبدو أكثر وضوحاً إذا نظرنا إليها من خلال مظاهر التطوير المهني، وهي عدة أنشطة عملية يقوم بها الفرد في هذه المرحلة. فمع بداية مرحلة التعليم الثانوي، أي من سن 15 إلى 18 سنة، تسمى هذه الفترة بفترة “التبلور”، حيث يتطور مفهوم الرؤية المهنية للذات عند الفرد ليكون أكثر وعياً بميوله وقدراته وقيمه وسماته الشخصية، ويصبح لديه تفضيلات مهنية عامة من خلال إدراك المجالات المهنية المتاحة وعمل اختيار مبدئي للتخصص الدراسي، أما من سن 18 إلى 21 سنة يصبح القرار المهني لديه أكثر تحديداً، ويكون الفرد فكرة أكثر وضوحاً عن المجال المهني المناسب له، وتعد هذه الخطوة تغيراً جوهرياً في إدراك الذات لدى بعض الناس، لذلك تسمى فترة “التحديد والتخصص ” حيث يقوم الفرد باختيار التخصص الجامعي والالتحاق به، إلا أن في واقعنا العربي لا يستطيع الشاب تحديد التخصص الجامعي بمفرده فقد تتدخل عوامل كثيرة في هذا الأمر كتدخل أفراد العائلة في اختيار تخصصه أو أن تستهويه مظاهر خادعة حول اختيار المهنة فيصطدم بالواقع بعد الدراسة أو العمل، ولكن سوبر تكلم على فترة التحديد على أمل القيام بما يجب أن يكون عليه الفرد لمعالجة ما هو واقع، ويلي هذه الفترة وضع خطة مهنية استعداداً لدخول مجال العمل المحدد. ثم يبدأ الفرد فترة “التنفيذ” من سن 21، وفيها يتخذ الخطوات الضرورية لتنفيذ قرارته المهنية وبدء حياته العملية عن طريق التدريب الفعلي على المهنة المحددة، أو التسجيل في أحد برامج الدراسات العليا وذلك للتأهيل واكتساب الخبرات والمهارات المناسبة للحصول على العمل المناسب.
أما عن العوامل المؤثرة في اتخاذ القرار المهني في مرحلة “الاستكشاف” فهناك عدة عوامل أهمها: المستوى التعليمي والثقافي للأسرة فغالباً ما يتطلع الدكاترة أو المهندسين أن يحذو أبنائهم حذوهم بل أحياناً يفرضون ذلك عليهم فرضاً، وكذلك القيم الحياتية والمهنية لها أعظم التأثير على قرارات الفرد في تلك المرحلة؛ فقد يختار مجالاً دراسياً لأن أصدقائه اختاروا نفس المجال، أو لأن هذا المجال له واجهة اجتماعية أو اختاره لكي يرضي والديه وعائلته إلى غير ذلك من القيم، كما أن للمجتمع، والتقاليد، والأصدقاء، ووسائل الإعلام أيضاً تأثير على اختيارات الفرد المهنية سلباً أو إيجاباً.