مع كلّ ما يشهده المستقبل من تغيّرات جذرية مسّت كلّ جوانبه، وفي ظلّ التركيز الكبير على التخصصات العلمية ومهارات التكنولوجيا والرياضيات أو ما يعرف بالـ STEM، يتساءل الكثيرون حول مصير العلوم الإنسانية. هل ستختفي وتُسحق تحت عجلة التقدّم التكنولوجي والتطور العلمي؟ أمّ أنها ستحظى بحصّتها في عالم الأرقام المستقبلي؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ قدرات البشر متفاوتة وميولهم مختلفة، فهناك من يبرع في الرياضيات والفيزياء وغيرها من العلوم، وهناك من يملك شغفًا للفنون والآداب. وفي الوقت الذي تشعر فيه الفئة الأولى بالأمان تجاه المستقبل، نجد أنّ أفراد المجموعة الثانية متخوّفون من مستقبل وظائفهم، ويتساءلون إن كان عالم الغد سيحتاج إليهم.
في واقع الأمر، تعتبر العلوم الإنسانية نقطة البداية للكثير من قادة الغد، والباحثين وروّاد الأعمال المستقبليين. وفي الوقت الذي تتميّز فيه التخصصات الإنسانية عن بعضها البعض في الكثير من الجوانب، نجد أنّها وبالمجمل، تزوّد طلابّها بالعديد من المهارات المشتركة التي يعتمد عليه أرباب العمل في يومنا هذا، والتي سيزداد الطلب عليها مستقبلاً.
4 أسباب تضمن للتخصصات الإنسانية مكانها في المستقبل
أوّلاً: صعوبة تحديد مصداقية المعلومات مستقبلاً
تجاوزت مواقع التواصل الاجتماعي الصحف المطبوعة كمصدر رئيسي للأخبار في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2018. ولاشكّ أن هذا التزايد سيستمر لينتشر في جميع أنحاء العالم. وهكذا فإن التوسع المتسارع في الشبكات الاجتماعية والمحتوى الإلكتروني سيجعل من القدرة على تمييز الحقيقة من الزيف مهارة أساسية.
تحرص الكثير من مجالات العلوم الإنسانية على تدريب دارسيها لتفسير المعلومات وتقييم مدى موثوقيتها وصحتها وأصالتها، من خلال التعامل مع النصوص والوثائق والصور من مختلف الأطر الزمنية والمناطق الجغرافية ووجهات النظر المتباينة الأمر الذي يحفظ لها مكانتها في العالم الرقمي.
ثانيًا: العلوم الإنسانية شريك أساسي لمهارات الـ STEM
يُمكن تعريف مهارات الـ STEM منهجًا يتألف من أربع مواد دراسية رئيسية تشمل العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات. ولهذا، يُعبَّر عنها باستخدام الاختصار “STEM”.
تحتاج الحقائق العلمية للتفسير والنشر حتى تتمكّن من إحداث الفرق. ولأن العلوم الإنسانية تدرس الثقافة والقيم دراسة عميقة، يمكنها الكشف عن الحقائق والدوافع التي يسعُها الوقوف في وجه أقوى النظريات العلمية التي لا يمكن دحضها.
لعلّ إحدى أهم نقاط القوّة التي يتمتع بها دارسو التخصصات الإنسانية، المقدرة على رواية القصص, فالقصص هي التي تجذب انتباه الجمهور وتحفّز الأفراد على التغيير. والكثير من التغيرات العظيمة في العالم حصلت نتيجة تحفيز مباشر من الكتابات الإنسانية, فكتاب “الربيع الصامت” لعب دورًا حاسمًا في إطلاق حركة حماية البيئة والحفاظ عليها من التلوث والاندثار بل يعود له الفضل الأكبر في ظهور علم البيئة بأكمله, والأمثلة على وقوف العلوم التكنولوجية والإنسانية جنبًا إلى جنب كثيرة ودامغة.
ثالثًا: التطوّر التكنولوجي والطبي بحاجة إلى العلوم الإنسانية لضمان مستقبل أخلاقي
لا يقتصر تأثير العلوم الإنسانية على البيئة وحسب كما سبق التوضيح في النقطة السابقة، ولكنه يمتدّ ليشمل مختلف المجالات العلمية كـ الطب والتكنولوجيا. إذ نجد مثلاً رواية “فرانكشتاين” الشهيرة التي تطرح على القارئ سؤالاً مهمّا: هل يتوجب علينا القيام بشيء ما، فقط لأننا نستطيع ذلك، دون العودة إلى القيم والأخلاقيات؟
تسهم العلوم الإنسانية بمختلف فروعها في بلوغ التقدّم والتطور الحقيقيين اللذان ينبثقان من التفكير المدروس للقيم الإنسانية الثابتة. وهو أمر لا يمكن للآلة تمييزه، ويتجاهله الكثير من العلماء المتخصصون في المجالات التكنولوجية والطبية.
رابعًا: تسهم العلوم الإنسانية في تحفيز الابتكارات الخلاّقة في مجالات الثقافة والترفيه
بالرغم من كلّ التطور الذي يشهده عالمنا في الحاضر والمستقبل، فلا يمكن للبشر أن يستغنوا عن تراثهم وثقافاتهم، لأنها تبقى جزءًا من هويّتهم، كما لا يمكنهم التخلي عن عنصر الترفيه في حياتهم، ومهما تقدّمت الآلة وتطوّر الذكاء الاصطناعي وتقنياته، فلن يصل إلى مرحلة الابتكار.
ينشأ الابتكار من خلال اكتشاف الجوانب الخفية في عالمنا، حيث نواجه تحدّيات صعبة ونحل المشاكل بالاستعانة بمخيّلتنا للعثور على الحلول المناسبة.
وهنا يأتي دور التخصصات الإنسانية التي تدرّب دارسيها على صياغة الأسئلة بطرق جديدة تقودهم للعثور على حلول خلّاقة، فالكثير من روايات الخيال العلمي ألهمت العلماء للخروج باختراعات مميزة قلبت حياة البشرية.
صحيح أنّ التخصصات والمجالات العلمية تكتسح الحاضر والمستقبل، إلاّ أنه مع ذلك يبقى للعلوم الإنسانية مكانتها المميزة التي لا تندثر. مهما تقدّمت العلوم وتطوّر الذكاء الاصطناعي فلن يصل إلى مرحلة الابتكار، ولن يتمكّن الروبوت من فهم النفس البشرية كما يفهمها الإنسان.
إن كنت من محبّي المجالات الإنسانية، فما عليك سوى اختيار تخصصك المناسب، وتسليح نفسك بعدها بمهارات المستقبل التي تضمن لك تحقيق النجاح الوظيفي في العالم الرقمي المتنامي.